زهرة
لم تتخطى الرابعة عشر ربيعا نحيلة الجسد ، بيضاء متوردةالخدود ذات شعر أسود طويل فاحم مشاكس
لا يثبت على حاله ولا يستقر في مكانه ، كانت زهرة بجلبابهاالأسود البالي آية في الجمال تكاد تنفجر أنوثتها في جسدها النحيف كانت مرهفة الحس.. كانت لا ينقصها شيء لتكون أميرة زمانها .
في قرية عتيقة قديمة قدم التاريخ ، تناطح السحاب علوا وكأن دعاماتها دكت في السماء
من علوها ترى السحاب تحتها وهي شامخة على مشارف رؤوس الجبال الوعرة المسننة أما ما أنبسط من أرضها فتكسوهاالخضرة النضرة وتتخللها بهدوء السواقي في تعرجات أنسيابية بديعة .
جلست زهرة على أرضية المطبخ بجوار أخيها الذي يكبرها بسنتين وقد أعياهم التعب من العمل في حقل أبناء عمومتهم الأربعة و من طهو الطعام لهم ولزوجاتهم
وما أن سكنت مفاصلها حتى قالت لأخيها :
ما بالك.. أراك شارد الفكر مهموم ..أمازالت الفكرة الجنونية تراودك ؟
زفر بعمق وهو يجيب :
وما الجنون في هذا !
يتبع
الجنون هو ما نحن فيه نعمل كالعبيد في أرض أبينا
الجنون هو البقاء هنا ..لو كان بي قدرة لحملكِ معي لسافرت فورا دون تفكير
لو كنت أعرف ما سألاقيه في سفري ما ترددت في أخذكِ معي ..لو تطاوعني نفسي في ترككِ تعانين لوحدكِ لتركتكِ..
نظرت إليه بعطف وقالت بحزم الرجال وحكمة العجائز:
لا تشغل بالك بي ..سأعيش بجميع الأحوال سأعيش
وإذ بصوت زوجة أبن عمهم يقاطع همسهم ويحثهم على أتمام غسل الصحون وحلّب العنزات ..
قطب الحارث حاجبيه في تذمر فيما سارعت زهرة بالرد وهي تقول :
حسنا خالتي..قريبا ننتهي
ثم أضافت بشيء من الهمس وقالت لأخيها:
أرحل أخي..أرحل من هنا في أسرع وقت
أنا سيأتينني النصيب وأتزوج ويكون خلاصي أما أنتَ خلاصك هو الرحيل .
بات الحارث ليلته في السقيفة أرق وكلما أغمض له جفن لكزته الدواب بحوافرها أو أزعجته المعز بثغائها..نهض من مقامه وجلس يتأمل النجوم في السماء بنفس مرتاحة مطمئنة لقرار أتخذه لا رجعة فيه
نعم بعد غدا سيرحل
يتبع..
بالصباح الباكر وفي يوم شتوي ماطر ، بعيدا عن مسامعهم أفصح الحارث لأخته فيما كانت تعمل بالحقل عن عزمه بالرحيل.
انتصبت قائمة بثيابها المبللة ..سقطت منها سلة الثمار..تواجها وجها لوجه وساد بينهما صمت كصمت القبور، كانت تريد بداخلهاأن تترجاه بإن لا يذهب ويتركها وحيدة فهو ماتبقى لها بعد موت والديهما،استولى الخوف على كيانها ، ارتجفت أوصالها كما لم ترتجف قبل من البرد
قالت له بخوف :
أحقا عزمت على ذلك
قال بحزم:
نعم وأعدك أختاه أنني سأعود لاصطحابك
نزعت قلادة من نحرها وناولته إياها وهي تقول بصوت مرتجف:
هذا ما تبقى لي من رائحة أمنا خذها وأستعن بها على سفرك..عد قريبا أرجوك
يتبع..
استدار عنها ليخفي ما طفح على ملامحه من مشاعر تنفطر لها القلوب..أيتركها هكذا ببساطة فريسة البؤس والفقر لينجو بنفسه ؟ وفي كل مرة يطمئن نفسه على أنها محاولة انتحارية منه لاكتشاف المجهول.
دافعها تحسين أحوالهما لكلاهما معا
قد لا يكتب لها النجاح.
في الفجر التالي تناول صرة فيها ملابسه وبعض الطعام المجفف أعدته له زهرة بالخفاء وتحت جنح الظلام سلك طريقا ينزله من القرية كالصقر يحط من السماء لا يعترضه شيء ولا يثني من عزمه شيء..
أكمل سيره للبحر لتقله أول مركب شراعي إلى حيث لا يعرف
وبعد أيام كان له ما يريد فهاهو على ظهر أحد المراكب يستمع إلى قصص المسافرين على أخبار المعارك العثمانية..هزائمهم..انتصاراتهم..مواقفهم وأتجهاتهم المتباينة من الحرب .
مرت السنين تلاحق بعضها في سباق جنوني توالت الأحداث والحارث لا يعرف سبيل للتواصل مع أخته ولا كيف هي أخبارها زادت غربته عن بلده وعزلته عن أبناءه ، قلّ كلامه حتى كاد ينعدم ، توقف الزمن عنده ،كانت حالته مستقرة و وضعه المادي ميسور لا ينقصه إلا زهرة والراحة من نفسه التي توأنبه وتقض مضجعه.
ولكن الزمن لا يمهل فمع مرور السنين تسلل إلى جسده الهرم وما عادت صحته تمكنه من السفر والعودة.
في يوم ماطر كالذي غادر فيه قريته وفارق فيه أخته زهرة
فارق الحارث الحياة وهو يهذي باسمها.
حاول أبنه البكر التواصل مع أبناء عمومته ولكن فشل هو أيضا والزمن يمر والمعالم تندثر ليموت الابن أيضا وأمنيته وأمنية والده معلقة وقصة زهرة معلقة أيضا لم يسدل الستار عنها.
تطورت وسائل الاتصال وانتشرت ليصبح العالم الشاسع قرية واحدة وببعض المعلومات الضحلة أستطاع حفيد الحارث التوصل إلي قرية جده والتواصل مع أبناء عمومته الذين فرحوا بحفيد صقر قريتهم أينما ترحيب.
وأول سؤال له هو :
لا نبغي أرث ولا جاه نريد معرفة كيف هي أحوال زهرة أخت جدي وما هو أسماء أبناءها ؟
فاجأته الإجابة :
زهرة ماتت ولم تتزوج !
هنا وعند هذه النقطة توقف وما عاد يهم بعدها شيء
وبإمكانه أن يخمن كيف ماتت ولماذا ؟
قال له أخيرا:
أمانة.. أقرأ عند قبرها الفاتحة وبلغها أن أبناء أخوكِ الحارث وأحفاده يبلغونك السلام
أنتهت