خرجنا في وقت مبكر جدا, كذلك بدا لي الأمر في البداية.
ليس صحيحا, فالوقت لم يكن مبكرا بالنسبة لهم, فقد وجدنـا عددا من الصيادين يقفون وقفة موحدة طمعا في صيد ممطر.
شعرت لوهلة عند مشاهدتي لهم أنهم يمارسون الصيد جميعا بنفس الطريقة ، ويكررون نفس العملية ،يلقون النظرة ذاتها في اتجاه البحر ويطعمون صناراتهم بنفس الطعم, وبلا شك يصيدون أيضا نفس السمك ..
خيل إلي أن حياتهم مختلفة عن غيرها, فهم لا يمكن أن يزاولوا أعمالا أخرى غير صيد الأسماك..
علق كبور على سرحاني قائلا :
- فيماذا تفكر ؟
ابتسمت إليه وقلت مازحـا :
- أفكر في عدد السمكات التي ستجمعها اليوم في هذا الصندوق وهل ستكفينــا للغذاء ؟
قهقه عاليــا :
- لا يهمني عددها يا صاح، بقدر ما يهمني أن أقضي هنـا وقتا حميميا بجانب البحر ..نحن جزء لا يتجزأ من بعضنا البعض تماما كهذه السمكة , وبدأ يزيح إحدى السمكات العالقة على رأس خيط الصنارة ويرميها في صندوقه الخشبي ..
أحسست وكأنه فك اللغز الذي حيرني :" أي كيف هي علاقة الصياد بالبحر؟ "
عرفت أنها قديسة مشبعة بالحب و الوفاء ..
قطع حبل أفكاري صوت كبور وهو يرمي بصنارته من جديد مهمهما بفخر :
- لن تستشعر كيف أحس وأنا أراقب حركة الخيط وانزياحه ولا كيف أتحسس مداعبة السمكة للطعم الذي وضعته لها ..
إنها متعة حقيقية لا يتذوقها إلا الصياد عينه..
وقبل أن أرد عليه و أطلب منه أن يمهلني لأجرب عيش الإحساس والمتعة ذاتها ..
سمعنــا هتاف أحدهم على مقربة منــا وهو ينادي الجميع :
سي محمد , آ سي محمد ..عمي كبور.. العربي ..سي علال .. : تعالوا جميعا
رمى كبور بصنارتـه و جرني معه : هيا بنـــا لابد أن صديقنــا حصل معه شيء ..
اقتربنــا وباقي الرجال صائحين: ما الأمر يا علي .. ما الأمر ؟
هل اصطدت دلفينــا
وقهقهوا جميعا ..
لكنهم وقفوا متسمرين عندمــا شاهدوا جثة لفظها البحر بقرب إحدى الصخرات ،حاولوا جاهدا اكتشاف هويتها، ما نجحوا ..فقد تشوهت ملامح الجثة بسبب ارتطامها بالصخرة
تبدو لرجل قد تعدى سنـه الخمسين ، دنا منه صاحبي حتى اقترب منه أكثر .. و أدمعت عيناه :
- أحس وكأني أعرفه
قال سي علال وهو يشير إلى الجثة :
- وأنــا مثلك، لكن مـــن ؟
رمق الجميع الجثة بنظرة ألم و حسرة ، ترى لمن تكون ..؟؟
تلعثم العربي قائلا:
ـ لا بـد أن البحر رماه منذ أيام ، ونحن لا نغيب عن المكان وأحد لم يسأل عنه..؟؟
قاطعه سي علال وعلامة الخوف بادية على محياه : لعله عابر سبيل ..؟؟
ولو أن حدسي يقول إننا نعرفه و ليس بغريب ..
تماسك الجميع و حملوا الجثة إلى أعلى الشاطئ ،مددناها على الرمال ،
و الكل في حالة تأمل يائس ، يتمنون أن يخيب الظن هـذه المرة ولا يكون أحد الرفقة ..
وإذا بصاحبي كبور تتغير ملامحه بغتة و يصرخ بكل مالديه من قوة
لااااااااااااااااااااا
- هذاا السي الهاشمي يا رفاق
أستاذنا وشريكنـــا
بذلته الزرقاء لن تتوه عني و إن تمزقت ..
إنه قريتنا التي نطمئن لجدارها
أين كنت و أين كنــتم عندمــا ابتلعه البحر ..