و أخيرا يا أم سلمى اتخدت قراركِ..قررت أن تتخلي عن ملجئك الذي احتواكِ لسنوات
قرارك جاء متأخرا جدا , ليس العيب أن يقرر المرء ما يريد .. لكن أن يكون قد المسؤولية
ترغبين العودة إلي الحياة..و سماع دقات القلب مرة أخرى ..
مللت من أربع جدران.. و ظلمة قاتمة ..أحسستِ أن قساوة الأيام تطبق عليك بكيفها..
و قلت في نفسك للحظة : سأرجع عقارب الساعة للوراء و سأخرج للحياة مرة أخرى
لكنك ككل مرة يستبد بكِ الخوف و الانكسار فتعودين تتكورين إلي أجزائكِ
هاهي الأيام المرة و السنوات الآنسة قد انقضت ..و جاءت الساعة التي انتظرتها
يا أم سلمى ..وفي وقت غير متوقع أطلقت صوتا كالرعد : ها أنا سأعود قريبا انتظروني..
و رميت الجلاميد من فوقك و نبشت في التراب حتى لم يتبقى سوى حجيرات فبدأت تدفعين
التراب بكتفيك حتى وصلتِ..ناداك صوت الضمير مرارا..لكنكِ لم تهتمتي أكملت عملك و أنت تمزقين
الملاءمات الترابية.. تدحرجت من مكانك الضيق حتى لاحت لك أشعة و قبسات من الشمس التي حُرمتِ منها
عقدين..لا ألومكِ يا أم سلمى فلقد ضقت درعا بحياة الرطوبة و العفونة..لربما جاء الوقت لتتحري من وحدتكِ
وقفت على رجليك مرة أخرى .. و تفكيريك راح لبعيد.. نالتك صور الماضي فوقفت فجأة مصمرة في مكانك
تشاهدين صور باهتة رمادية فهذا ما تبقى لكِ ..توغلت في ثنايا الماضي و غصت في آلامها قبل سعادتها
و أكملت طريقك و أنت لا تعرفين أين سيلوحك القدر هذه المرة ..رحلة هادئة رصينة لا يزعجك أحد..
لا أحد يلكزك في ذراعكِ .. و لا تصل إلي مسامعكِ أغاني و صراخات رخيصة تدنو في كل
مكان ...تخطين خطوات رزينة تابثة لا يهمك لا المشاكل السياسية الاقتصادية و الاجتماعية..فأنتِ
بعيدة كل البعد عن قيود الأسعار و الأجور..فلا تضعي يدك في جيبك تبحثين عن ضريبة لرحلتكِ الممتعة هذه
أليس غريب يا أم سلمى لأول مرة تتجولين و لا يضيركِ شيئا..
ابتسمت بسمة عريضة و بحركة بهلوانية قفزتِ من مكانك فرحة .. فلقد تبين لكِ باب مفتوح و ستلجينه
لتصلي إلي أحبائكِ.. لكن في طريقكِ لم يتبين لك سوى امرأة عجوز واقفة على حافة الباب تنتظركِ
خفتِ أن تنظري إليها فتعود لك خواطر الندم و الألم فتجلك قسوة الايام.. بدأت تلوبين بعينك المكان
و أنت تبتعدين لكن خانتك عينك فهي تنظر إليها مصمرة لا تزاح عن عينها أيقينت أنها تراك بوضوح
قفز قلبك من مكانه.. و تعصرت خوفا و خجلا..قررت أن تديري لها ظهرك و تذهبي ركضا..لكن لا يا سيدتي
فقديمك ملتصقين في مكانها و عينك مصمرتين إليها .. لا يوجد مفر سوى المواجهة و في لحظة تذكرت أخريات
سلمى سناء سعاد مريم فاطمة .. وضعت يدك اليمنى على فمك و اليسرى على عينيك لكنك لم تستطيعي
أن تغطي أذنيك فهمسك لكِ العجوز : نحن سبب موتهن فلماذا نظرتِ إلي بتلك الطريقة.
تراجعت بسرعة رهيبة إلي مطرحك الأول و استيقظت اثر ضحكتهن مسحت التراب عن ملابسكِ البيضاء
و قفزت على قديمن متباعدين و القبر فاتح دراعيه ليستقبك ِ أحسست أنك أوغلت كتيرا في دهاليز الماضي
و تذكرت قراركِ .. فاستبد بك الحنين و الشوق إلي لقاء الأحباء..كنت تجولين المدينة فرحا .. رغم تجاهل الجميع
اصطدمت بالمرارين .. و تعثرت مرارا لكنك كنتِ مصرة على الوصول..فلما وصلت وجهتِ جتة مرمية في الغابة
و أمامها أطنان من الذنوب و الأخطاء... بدأت تنكرين أفعالكِ و في لحظة بدأت تركضين كالمجنونة اتسعت خطواتكِ
بدأ اللهاث يمزق صدري .. لم أستطع الركض وراءك يا أم سلمى..انتظري رويدا يا ريتني أستطيع معرفة أين تذهبين
بسرعة فائقة !! تعودين إلي قبركِ لقد اتخدت قراركِ عودي..
مهلا يا أم سلمى لقد سقطت رجلك الأولى في التراب اللزج و بدأتِ تغرقين رويدا .. لم أعد أسمع رغباتك و قرارتكِ
هل ستُدفن هي الأخرى معكِ..يؤسفني أنني لم أتلقى منكِ يا أم سلمى حتى تلويحة يد .. إشارة وداع..بسمة واحدة
لكن لا يهم يا أم سلمى سيأتي بعدكِ الكتيرين.